سورة مريم - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)}
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى} أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى. {إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً} في عبادته غير مرائي. وقرأ أهل الكوفة بفتح اللام، أي أخلصناه فجعلناه مختارا. {وَنادَيْناهُ} أي كلمناه ليلة الجمعة. {مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} أي يمين موسى، وكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر، قاله الطبري وغيره فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال. {وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا} نصب على الحال، أي كلمناه من غير وحي.
وقيل: أدنيناه لتقريب المنزلة حتى كلمناه. وذكر وكيع وقبيصة عن سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا} أي أدنى حتى سمع صريف الأقلام. {وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا} وذلك حين سأل فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي}.


{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ} اختلف فيه، فقيل: هو إسماعيل ابن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته. والجمهور أنه إسماعيل الذبيح أبو العرب ابن إبراهيم. وقد قيل: إن الذبيح إسحاق، والأول أظهر على ما تقدم ويأتي في والصافات إن شاء الله تعالى. وخصه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له وإكراما، كالتلقيب بنحو الحليم والأواه والصديق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.
الثانية: صدق الوعد محمود وهو من خلق النبيين والمرسلين، وضده وهو الخلف مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين على ما تقدم بيانه في براءة. وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل فوصفه بصدق الوعد. واختلف في ذلك، فقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدى. هذا في قول من يرى أنه الذبيح.
وقيل: وعد رجلا أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء، فقال له: ما زلت ها هنا في انتظارك منذ أمس.
وقيل: انتظره ثلاثة أيام. وقد فعل مثله نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بعثه، ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره عن عبد الله بن أبى الحمساء قال: بايعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: «يا فتى لقد شققت علي أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» لفظ أبي داود.
وقال يزيد الرقاشي: انتظره إسماعيل اثنين وعشرين يوما، ذكره الماوردي.
وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة. وذكره الزمخشري عن ابن عباس أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظر سنة. وذكره القشيري قال: فلم يبرح من مكانه سنة حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال: إن التاجر الذي سألك أن تقعد له حتى يعود هو إبليس فلا تقعد ولا كرامة له. وهذا بعيد ولا يصح. وقد قيل: إن إسماعيل لم يعد شيئا إلا وفى به، وهذا قول صحيح، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية، والله أعلم.
الثالثة: من هذا الباب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العدة دين».
وفي الأثر: «وأى المؤمن واجب» أي في أخلاق المؤمنين. وإنما قلنا أن ذلك ليس بواجب فرضا لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء فلذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن مع المروءة، ولا يقضى به. والعرب تمتدح بالوفاء، وتذم بالخلف والغدر، وكذلك سائر الأمم، ولقد أحسن القائل:
متى ما يقل حر لصاحب حاجة *** نعم يقضها والحر للواي ضامن
ولا خلاف أن الوفاء يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم. وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده، ووفى بنذره، وكفى بهذا مدحا وثناء، وبما خالفه ذما.
الرابعة: قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه. قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها.
وفي البخاري {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ}، وقضى ابن أشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع.
الخامسة: {وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا} قيل: أرسل إسماعيل إلى جرهم. وكل الأنبياء كانوا إذا وعدوا صدقوا، وخص إسماعيل بالذكر تشريفا له. والله أعلم.
السادسة: {وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} قال الحسن: يعني أمته.
وفي حرف ابن مسعود {وكان يأمر أهله جرهم وولده بالصلاة والزكاة}. {وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}
أي رضيا زاكيا صالحا. قال الكسائي والفراء: من قال مرضى بناه على رضيت قالا: واهل الحجاز يقولون: مرضو.
وقال الكسائي والفراء: من العرب من يقول رضوان ورضيان فرضوان على مرضو، ورضيان على مرضى ولا يجيز البصريون أن يقولوا إلا رضوان وربوان. قال أبو جعفر النحاس: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: يخطئون في الخط فيكتبون ربا بالياء ثم يخطئون فيما هو أشد من هذا فيقولون ربيان ولا يجوز إلا ربوان ورضوان قال الله تعالى: {وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ 30: 39}.


{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)}
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وسيرها. وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى. وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر. الزمخشري: وقيل سمي إدريس إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى، وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح، لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل على العجمة، وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون، ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت، ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات، يجوز أن يكون معنى إدريس عليه السلام في تلك اللغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي مشتقا من الدرس. قال الثعلبي والغزنوي وغيرهما: وهو جد نوح وهو خطأ، وقد تقدم في الأعراف بيانه. وكذا وقع في السيرة أن نوحا عليه السلام بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي فيما يزعمون. والله تعالى أعلم. وكان أول من أعطى النبوة من بني آدم، وخط بالقلم. ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن يانش بن شيث بن آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فالله أعلم. قوله تعالى: {وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا} قال أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وغيرهما: يعني السماء الرابعة. وروي ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقاله كعب الأحبار.
وقال ابن عباس والضحاك: يعني السماء السادسة، ذكره المهدوي. قلت: ووقع في البخاري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسرى برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مسجد الكعبة، الحديث وفيه: كل سماء فيها أنبياء- قد سماهم- منهم إدريس في الثانية. وهو وهم، والصحيح أنه في السماء الرابعة، كذلك رواه ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره مسلم في الصحيح.
وروى مالك بن صعصعة قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة». خرجه مسلم أيضا. وكان سبب رفعه على ما قال ابن عباس وكعب وغيرهما: أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس، فقال: «يا رب أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه من ثقلها. يعني الملك الموكل بفلك الشمس يقول إدريس: اللهم خفف عنه من ثقلها واحمل عنه من حرها. فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس والظل مالا يعرف فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فما الذي قضيت فيه؟ فقال الله تعالى: {أما إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته} فقال: يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيني وبينه خلة. فأذن الله له حتى أتى إدريس، وكان إدريس عليه السلام يسأله. فقال أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي، فأزداد شكرا وعبادة. فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فقال للملك: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي قال نعم. ثم حمله على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم قال لملك الموت: لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله. فقال: ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت علمه أعلمته متى يموت. قال: نعم ثم نظر في ديوانه، فقال: إنك تسألني عن إنسان ما أراه يموت أبدا. قال وكيف؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال: فإني أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فما أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من أجل إدريس شي. فرجع الملك فوجده ميتا».
وقال السدي: إنه نام ذات يوم، واشتد عليه حر الشمس، فقام وهو منها في كرب فقال: اللهم خفف عن ملك الشمس حرها، وأعنه على ثقلها، فإنه يمارس نارا حامية. فأصبح ملك الشمس وقد نصب له كرسي من نور عنده سبعون ألف ملك عن يمينه، ومثلها عن يساره يخدمونه، ويتولون أمره وعمله من تحت حكمه، فقال ملك الشمس: يا رب من أين لي هذا؟. قال دعا لك رجل من بني آدم يقال له إدريس ثم ذكر نحو حديث كعب. قال فقال له ملك الشمس: أتريد حاجة؟ قال: نعم وددت أني لو رأيت الجنة.
قال: فرفعه على جناحه، ثم طار به، فبينما هو في السماء الرابعة التقى بملك الموت ينظر في السماء، ينظر يمينا وشمالا، فسلم عليه ملك الشمس، وقال: يا إدريس هذا ملك الموت فسلم عليه فقال ملك الموت: سبحان الله! ولاي معنى رفعته هاهنا؟ قال: رفعته لاريه الجنة. قال: فإن الله تعالى أمرني أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة. قلت: يا رب وأين إدريس من السماء الرابعة، فنزلت فإذا هو معك، فقبض روحه فرفعها إلى الجنة، ودفنت الملائكة جثته في السماء الرابعة، فذلك قوله تعالى: {وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا} قال وهب بن منبه: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة آدمي، وكان إدريس عليه السلام يصوم النهار، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل. ففعل به ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس، وقال له: من أنت! قال أنا ملك الموت، استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي، فقال: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: أن تقبض روحي. فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه، فقبضه ورده الله إليه بعد ساعة، وقال له ملك الموت: ما الفائدة في قبض روحك؟ قال لا ذوق كرب الموت فأكون له أشد استعدادا. ثم قال له إدريس بعد ساعة: إن لي إليك حاجة أخرى. قال: وما هي؟ قال أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار، فأذن الله تعالى له في رفعه إلى السموات، فرأى النار فصعق، فلما أفاق قال أرني الجنة، فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود إلى مقرك. فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها. فبعث الله تعالى بينهما ملكا حكما، فقال مالك لا تخرج؟ قال: لان الله تعالى قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وأنا ذقته، وقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} [مريم: 71] وقد وردتها، وقال: {وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] فكيف أخرج؟ قال الله تبارك وتعالى لملك الموت: «بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج» فهو حي هنالك فذلك قوله تعالى: {وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا} قال النحاس: قول إدريس: {وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} يجوز أن يكون الله أعلم هذا إدريس، ثم نزل القرآن به. قال وهب ابن منبه: فإدريس تارة يرتع في الجنة، وتارة يعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7